الخميس، 5 ديسمبر 2013

القاضي يحكمه النص والتشريع يحكمه الواقع


القاضي يحكمه النص و التشريع يحكمه الواقع

 
حين وضعت الشرطة عقوبة الحبس لمدة 48 ساعة لتخطي الاشارة الحمراء في الشوارع  كانت تريد بذلك أن تردع أي سائق مستهتر تأخذه الرعونة إلى إيذاء نفسه وغيره في الطريق.

أي أنها وضعت الحد الاقصى للمخالفة وهي الحبس ولأن هذا السائق المستهتر قد يكون من ما قد يعتبره البعض  من وجهة نظر عامة قد إرتكب ما يسمى (بالشروع في القتل) ، وعليه ولخطورة المخالفة فقد أوجب ذلك إيجاد عقوبة إحترازية تردع اي مخالف .

بالطبع هذا الحديث منطقي جداً لأننا في عام 2013 ولكن لو رجعنا للوراء وتحديدا لعام 1973 حين صدر أول قانون للمرور لكان تطبيق هذه العقوبة مستحيلاً وغير مقبول من قبل الجميع ؛ لأن عدد السيارات و عدد الحوادث والضحايا لم تكن لتشكل خطرا آنذاك ولم تكن لدينا هذه الأعداد من المخالفات المرورية .

ولأكون أكثر صراحةً ً كثيرون منا لم يتقبل العقوبة .. ولكن الشرطة أقدمت على تطبيقها على الجميع الكبير والصغير الشاب والفتاة وكلنا سمعنا عن ردة فعل بعض الاهالي في قضية حبس الفتيات المخالفات لتخطي الأشارة الحمراء وحبسهن حسب القرار .

ولكن ألم يكن ذلك رادعا لنا جميعا .. ألا يجعلك الآن تفكر  وتخفف السرعة أمام الاشارات المرورية ؟؟ إذاً فإن أسلوب العقوبة القصوى للمخالفة هي أجدى لردع المستهترين ولمنع تفاقم المخالفات وكثرة الحوادث الناجمة عن تخطي الأشارة الحمراء.

كما ذُكر سابقاً فإن تطبيق العقوبة القصوى ضروري في الوقت الحالي نسبة لتزايد عدد الحوادث المميتة التي تتعرض لها البلد خلال السنة الواحدة نتيجة الإهمال والرعونة والسرعة الزائدة من قبل البعض .

في بداية هذا العام قامت هيئة حماية المستهلك بنشر قضية الحلويات الفاسدة وتأثر الشارع العماني بجميع فئاته بالموضوع وتفاعل الكل وطالب بتطبيق أقصى العقوبات على هؤلاء المجرمين الذين سولت لهم أنفسهم تغيير تواريخ إنتاج السلع لسنوات في البلد دون علم أحد ، والتي قد تشكل خطورة على حياة أطفالنا فلذات أكبادنا ، ناهيك عن الخطورة الصحية لها على المدى البعيد وقد أدانت المحكمة المتهمين وأصدرت حكمها  بتغريمهم 14.400ريال عماني والسجن لمدة 3 سنوات فقط.

لماذا؟ لأنه وفقاً للقانون الذي تم تطبيقه وهما : قانون حماية المستهلك وقانون سلامة الغذاء تعتبر جنحة  والتي تصل عقوبتها للسجن لمدة لا تزيد عن الثلاث سنوات وغرامة مالية  . أذاً، مهما شغلت القضية الرأي العام وتم تداولها بين الافراد وهذا ما حدث في قضية الحلويات الفاسدة وقد تم تناولها بإسهاب في شبكات التواصل الاجتماعي .. فإن القاضي يحكمه النص وليس تعاطف الشارع مع القضية ولا رغبة الناس في نوعية العقوبة  ولا الهتاف بعبارة ( يجب أن يحكم عليه بأقصى العقوبات ).

 ومن القضايا المتداولة حالياً هي القضايا التي تتعلق بالرشوة المتعددة الأطراف والأفراد والجهات ، إذاً دعونا نرجع للمواد التي  تعالج هذه الجريمة حيث تنص المادتان  ( 155 ) و ( 156) من قانون الجزاء العماني على الأتي :

المادة (155): "كل موظف ، قبل رشوة لنفسه أو لغيره ، مالاً أو هدية أو وعداً أو أي منفعة أخرى ليقوم بعمل شرعي من أعمال وظيفته ، أو ليمتنع عنه ، أو ليؤخر إجراءه ،يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة تساوي على الأقل ما أعطي له أووعد به ، وبعزله من الوظيفة مدة يقدرها القاضي".

و المادة(156): " يعاقب الموظف بالسجن حتى عشر سنوات  إذا قبل الرشوة - أو طلبها ، ليعمل عملاً منافياً لواجبات الوظيفة أو للامتناع عن عمل كان واجباً عليه بحكم الوظيفة ، وبغرامة تساوي على الأقل قيمة الرشوة وبعزله من الوظيفة مؤبداً تتناول العقوبة أيضاً الراشي والوسيط كما أنها تتناول وكلاء الدعاوي أذا ارتكبوا هذه الأفعال " .

 تجد أن القانون قد فرق بين  المادتين في  العقوبة بناء على نوعية الفعل .. حيث جعلت في المادة 155  العقوبة أقل إذا كانت أسباب الرشوة من صميم عمل الموظف وشددت العقوبة في المادة 165 إذا كانت مخالفة لواجباته الوظيفية .

لذلك فإن عدم التشديد في العقوبة بالمادة 155 لقبول الرشوة عامة وهو الفعل الذي أوجب التجريم وهي النقطة الجوهرية من وجود العقوبة لمنع وقوعها سواء كان الموظف يقوم بعمله تجعل جريمة مثل الرشوة هينة  تصل عقوبتها حسب نص المادة  لسجن لمدة ثلاث سنوات كحد أقصى ومن الممكن أن تكون الاعمال التي قام بها الموظف لا تخالف واجباته الوظيفية ولكنها تؤدي لإضرار جسيمة وقد لا يختلف الضرر الواقع اذا ما كان العمل مخالف لواجباته الوظيفية لذلك فأن تشديد العقوبة ملزم لكلتا الحالتين.

و وفقا لنص المادة (155) المشار إليها فإن أقصى عقوبة لجنحة الرشوة هي ثلاثة سنوات وهذه تعتبر عقوبة مناسبة عند صدور قانون الجزاء في السبعينات القرن الماضي حيث كانت موازنة الدولة أقل مما هي عليه الان .

ولكننا نتحدث الآن عن رشاوٍ تبعاتها  قد تقارب ملايين الريالات !! ولكم أن تتخيلوا الأضرار التي تلحقها بإقتصاد البلد باعتبارها ثروات قومية ... فكيف بجريمة تدمر  إقتصاد البلد تعتبر مجرد جنحة رشوة .. لان القاضي سيحكمه النص القانوني الذي أمامه لجرائم الرشوة  التي وضعت حسب القانون.

يقول المثل لكل مقام مقال  وأقول لكل وقت و زمان تشريعه الذي يتماشى مع معطيات ذلك العصر ..ما كان يصلح قبل ثلاثين عاماً وكان رادعا  قد لا يصلح ألان فلا بد من سن القوانين الجزائية التي تواكب تطور الجريمة .

القوانين هي نصوص وضعية .. وضعت بناءاً على إحتياجات البشر في زمان معين ومكان معين وهي ليست مقدسة وتغييرها لا يقلل من شأن الدولة بل العكس .. يعكس مدى الوعي القانوني والحس العصري للحكومات. ولذلك من الواجب تغيرها إذا أصبحت لا تتناسب مع متغيرات العصر .. وذلك حتى تظل صالحة وفاعلة .

العدل أساس الحكم ،، تلك من أبسط مبادىء القانون على مر العصور التي جعلت البشر يلجؤون للقضاء للحكم في أمورهم فالعدالة تقتضي أن تتناسب القوانين مع المتغيرات في كل زمان ومكان . المبدأ الثابت هو العدل والوسيلة هي النصوص القانونية وهي المتغيرة لتناسب الازمنة المختلفة .

لقد أعلنت سلطنة عمان قبل أيام إنضمامها للإتفاقية الدولية حول مكافحة الفساد ولتفعيل هذه الإتفاقية لابد أن تكون نصوص القوانين المرتبطة أكثر فاعلية و ردعاً لضمان سيادة حكم القانون وأيضا لضمان التطبيق الأمثل للإتفاقية ، إن القوانين كانت ولا تزال موجودة ولكن يشهد لسان الحال إنها لم تكن رادعة بما فيه الكفاية بدليل وجود كل هذه القضايا المتعلقة بالفساد .

حين أرادت الحكومة الأمريكية إقناع العالم والأمريكيين أنفسهم بالوقوف معها لمحاربة الارهاب كما زعمت عدلت كل القوانين حتى تلك المرتبطة بالخصوصية بل وأعطت نفسها الحق بحبس كل مشتبه وإلقائه في سجن (غوانتنامو) بدون محاكمات بالإضافة إلى ممارستها الضغوط على بلدان العالم المختلفة لإصدار قوانين لمحاربة الإرهاب ونجحت في ذلك .

فإن كنا قادرين ان نضع قانون باسم محاربة الارهارب فمن باب أولى ان يكون لدينا قانون (لمحاربة الفساد) حيث تُجرم فيه الأفعال مثل الرشوة وسرقة المال العام وإهدار الثروات القومية وأن ينص على عقوبات رادعة وليس مثل قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح الذي أعتبره قانون ممتاز غير أنه لم يتم تفعيله بالشكل الرادع لقضايا الفساد.

 وعلى سبيل المثال قام المشرع التايلاندي  بتغيير عقوبة الإتجار بالمخدرات على أراضيها من السجن إلى الإعدام .. لمحاربة الجريمة التي تفشت بها لأعوام ولم تستطع وقفها .. ولإن المشرع أرتأى بإن الاعدام هي العقوبة الوحيدة الرادعة لكل من تسول له نفسه بأرتكابها . حيث أصدرت تايلاند أحكام بالإعدام على تسعة أشخاص بتهم تتعلق بالمخدرات في عام 2011 ومنذ أوائل عام 2012 كان هناك ما لا يقل عن 245 شخص  ينتظرون تنفيذ حكم الاعدام عقاباً على جرائم متعلقة بالمخدرات.

لابد من دارسة المتغيرات والتحولات والتطور الذي يشهده المجتمع وما كان يعتبر كسب بغير وجه حق بالأمس يعتبر اليوم إهداراً للمال العام وسرقة للثروات القومية.. وبيع للاصول التي هي من حق الاجيال القادمة وفي هذا الصدد أقترح تكوين لجنة من الجهات المختصة لمراجعة قانون الجزاء العماني وإقتراح التعديلات اللازمة.

من المجحف النظر لنصوص القانون انها نصوص كاملة أومثالية أو خالدة ، والا ما الفائدة من التعديلات والالغاءات وتذكروا انها من وضع البشر والكمال لله سبحانه وتعالى وحده.

أمل بنت شهاب الزدجالي

هناك 3 تعليقات:

  1. جميل جداً يا أمل.. بالرغم أنني أرى أن القاضي هنا تحكمه أشياء أخرى بعيدة كل البعد عن التشريع.. فهل يُعقل تصنيف جريمة الاتجار في المأكولات الفاسدة وحلويات وحليب الرضع والأطفال وغيرها إلى جنحة؟؟
    أليست عواقبها كما يحدث لمن يتعاطى السم والمخدرات..؟ وربما أشد ؟..
    ولكن لا أستغرب من الوضع لما أصبحنا نسمع ونرى قصص وروايات بروائح نتئة وقذرة وفاسدة تنبعث من هذه البقعة النقية الطاهرة من الوجود...
    القاضي يحكم على الحدث السارق بخمس سنوات سجن يقضيها في سجن سمائل.. أما قتل متعمد مجتمع بأكمله وغش واحتيال تزوير ونصب وسرقة من العامة تصنّف كـ جنحة.. #عجيب!!
    أين عدل التشريع في هذا؟!! ،
    وإن كان من حُمل مسؤولية تطبيق العدل يحكمه التشريع.. أين هو من قوله عزوجل (النَّفْس بِالنَّفْسِ وَالْعَيْن بِالْعَيْنِ وَالْأَنْف بِالْأَنْفِ وَالْأُذُن بِالْأُذُنِ وَالسِّنّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوح قِصَاص }
    ما نقول غير : حسبي الله ونعم الوكيل

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. بغض النظر عن أن قوانين السلطنة ليست كلها وضعية، فهناك قوانين عرفية، و قوانين دينية...
    لكن دعنا لا ننسى أن "الردع" هو ليس كل شيء. أغلب من يقف عند الضوء الأحمر يقف بسبب حسه بالوعي و المسؤولية، لا ردعاً. و في نظري أنه كلما زادت العقوبات الردعية، كلما دل ذلك على تراجع في الوعي و الحس بالمسؤولية و التعليم لدى الأفراد. هذه دلالة على أنه يجب أن يكون التركيز في تطوير ثقافة الأفراد، و ليس إحاطتهم بالمزيد من الردع، لأن الأهم من عدم ارتكاب الجريمة هو عدم الرغبة في ارتكابها أساساً، هذا ما لا يقف عليه القانونيون بشكل عام و لكن لعل ذلك بسبب طبيعتهم المهنية و هذا من طبيعة الاختلاف. شكراً لمقالك الهادف.

    ردحذف